Pages

بسم الله الرحمان الرحيم



بسم الله الرحمان الرحيم

مرحبا بكم

Meditations

Jun 24, 2011

إذا سألت فاسأل الله

بسم الله الرحمن الرحيم
إذا سألت فاسأل الله

وقف عماد يتأمل المناظر الطبيعية الخلابة التي تظهر له وهو على ظهر السفينة التي تقلّه مدعواً لرحلة ترفيهية مع صديقه المقرّب "كريم"، وبينما هو مستند إلى حاجز السفينة وقد بهرته روعة تلك المشاهد الخلابة التي تنطق بعظمة الخالق المبدع – سبحانه وتعالى – أغراه جمال المنظر أن يميل بجسده أكثر إلى الأمام ليتمكن من رؤية السفينة وهي تمخر عباب البحر وقد كانت سفينة صغيرة جميلة الشكل.
وفجأة جاءت موجة عنيفة اهتزت معها السفينة اهتزازاً شديدا فاختل توازن "عماد" وحدثت المصيبة. سقط "عماد" في قلب المحيط، وتعاظمت المصيبة ، فـ "عماد" لا يُحسن السباحة، صرخ طالباً النجدة حتى بُح صوته، وظل يصارع الموج دون جدوى، وبدأ ينادي بصوت يشبه هزيم الرعد، يا جيلاني! يا شاذلي! يا دسوقي ! يا محضار! علّهم يستطيعون إنقاذه وبينما هو يصارع تلك الأمواج العاتية ينادي بأعلى صوته؛ إذ رآه "محب" وهو رجل كهل تعلوه المهابة، في الخمسين من عمره كان مسافراً معه على ظهر تلك السفينة، وعلى الفور أطلق جهاز الإنذار ثم رمى نفسه في الماء لإنقاذ عماد.
وبسرعة دب النشاط والحركة في جميع أركان السفينة وهرول المسؤولون وتجمع المسافرون على ظهر السفينة يرقبون المشهد يبادرون بالعون والمساعدة، فألقوا قوارب النجاة إلى المياه، وتعاونت فرقة الإنقاذ مع الرجل الشهم على الصعود بـ "عماد" إلى ظهر السفينة، وتمت عملية الإنقاذ بعون الله تعالى ونجا" عماد" بقدر من الله من موت محقق، وتلقفه صديقه " كريم " معتنقاً إياه، ثم انطلق يبحث حوله عن ذلك الرجل الشجاع الذي جعله الله –تعالى – سبباً في إنقاذ حياته، فوجده واقفاً في ركن من أركان السفينة يجفف نفسه، فأسرع إليه "عماد" واعتنقه وقال: لا أدري كيف يمكنني أن أشكرك على جميلك معي؟ لقد أنقذت حياتي. فابتسم الرجل ابتسامة هادئة ونظر في الأفق متأملاً، ثم التفت إلى عماد وخاطبه قائلاً:
" يا بني ! حمداً لله على سلامتك، ولكن أرجوا أن تساوي حياتك ثمن بقائها".
تعجب "عماد" من هذه الكلمات، ونظر إلى الرجل مستوضحاً معنى كلامه. استمر الرجل في كلامه قائلاً: "لقد سمعتك وأنت تصارع الأمواج العاتية تنادي الجيلاني والدسوقي وغيرهما كي ينقذوك، فعلمت أنك بحاجة إلى الإنقاذ!".
عماد: "وما المشكلة في الاستغاثة بهم؛ أليسوا هم أولياء الله الذين يغيثون من أصابه الكرب والضيق والغرق وقد استجابوا لندائي وأرسلوك لإنقاذي؟ تبسم "عماد" عند هذه الكلمة.
بدا على "عماد" التحمس الشديد لمواصلة النقاش مع ما أصابه في هذا اليوم الصعب من متاعب، بادره "محب" بقوله لماذا لا تؤجل هذا الحديث إلى وقت لاحق كي تأخذ قسطاً من الراحة، ثم نواصل حديثنا إن شئت؛ فالوقت أمامنا طويل؟ وافق "عماد" وهو يتحسس أعضاءه التي أُصيبت بمواجع وآلام رهيبة. في عصر اليوم نفسه التقى "عماد" و" محب" على ظهر السفينة، وبدا "عماد" بحال جيدة. بادره "محب" بقوله: لعلك أخذت قسطاً من الراحة؟ هز عماد رأسه موافقاً مردداً الحمد لله .. الحمد لله.
بادر عماد "محباً" بقوله: "لقد تذكرت حديثاً يتصل بما تكلمنا عنه سابقاً".
محب: ما هو؟
عماد: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تحيرتم في الأمور؛ فاستعينوا بأصحاب القبور"، أترد هذا الحديث؟
محب: لا يجوز لأحد من المسلمين أن يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما أن الحديث صحيح.
ولكن إذا تأملت في هذا الحديث فإنه موضوع بإجماع المحدثين؛ كما أنه مخالف للقرآن الكريم لأن، الاستعانة طلب العون وفي سورة الفاتحة يعلمنا الله – تعالى – بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة: 5 ] فهذا أسلوب يفيد الحصر؛ فإن الاستعانة لا تكون إلا بالله وحده، أي: فلا يلتمس عون من أي شيء إلا من الله سبحانه، وعليه؛ أفلا يكون هذا القول السابق معارضاً للقرآن الكريم؟
ألسنا نقرأ الفاتحة في كل صلاة ونستحضر هذا المعنى لسبب ما؟
يا صديقي عماد ! إن هذا القول لم يسمعه أحد من الصحابة منه صلى الله عليه وسلم، ولم يوجد من قال بمثله في زمان الصحابة ولا التابعين، ولم ينقله أحد من المصنفين في الحديث الصحيح.
عماد : لكنه موجود في كتاب [كشف الخفاء] للعجلوني، وهو صاحب مكانة كبيرة في الحديث.
محب : قولك صحيح ، لكن [ كشف الخفاء] صنفه العجلوني ليميز الحديث الصحيح من الضعيف ومن الموضوع؛ مما اشتهر على ألسنة الناس من الأحاديث ، لهذا كثرت فيه الأحاديث الموضوعة، وما على الذين وضعوه إلا أن يتوبوا إلى الله تعالى.
عماد: إذن الحديث موضوع ! قال عماد هذه الكلمة وبدأ كأنه مستغرق في شيء ما؛ وفجأة بادر محباً بقوله :
ولكن ما قولك في قوله – تعالى - : {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [ القصص: 15]؟ ففي هذه الآية الكريمة دليل ظاهر على جواز الاستغاثة بالأموات والغائبين حينما تصيب الإنسان الأضرار والشرور.
محب: أفهم منك أخي أنك لا تميز بين الاستغاثة الجائزة والاستغاثة الممنوعة.
عماد: وهل ثمة فرق بينهما؟
محب: التفريق بينهما ظاهر وجلي وقد ذكره جملة من العلماء؛ فالاستغاثة الجائزة هي الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه من الأمور الحسية في قتال أو دفع ضرر، أما الاستغاثة الممنوعة فهي محصورة بالاستغاثة بالغائب من الشدائد كالمرض وخوف الغرق وهي الحالة التي كنت بها قبل قليل.
وهنا تحرك محب وعماد إلى ركن قصي من السفينة وجلسا على مقعدين متقابلين.
عماد: لكن ألسنا نستعين بالإنسان الحي؟ وهكذا روح الولي الميت، هي كالسيف المسلول من غمده، فهو أكثر قدرةً على الإعانة، وهؤلاء الأولياء ذوو قدرة كبيرة على التصرف.
محب: أخبرني من الذي أنبأك أن روح الولي كالسيف المسلول؟ ما سند هذا القول من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟
رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفّى نصلي ونسلم عليه كلما ذكرناه أو زرنا قبره، أما أن ندعوه فهو مخالفة صريحة للشرع؛ إذ ما الفرق بيننا وبين النصارى الذين يدعون نبي الله عيسى بن مريم- عليه الصلاة والسلام – من أجل نصرهم؟ ليس لهذا معنى سوى اتباع سبيل هؤلاء.
أما ما ذكرته بأن الولي إذا مات صار أكثر قدرة على التصرف والإعانة فليس عليه دليل؛ لأن الله عالم الغيب والشهادة قد بيّن لنا في كتابه الكريم بطلان ذلك، فقال: { اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الزمر: 42] فهذه الآية تدل على أن الله يسمك الأرواح في مكان ما في البرزخ.
أما عن الموتى ، فقال – تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّـهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } [ فاطر:22] وهذا عيسى بن مريم – عليه الصلاة والسلام- يقول في الآخرة كما قال الله عنه: { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]
فإذا كان رسول الله المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام نفسه لا علم له بما أحدثت أمته من بعده، فكيف يُقبل أن تكون روح الولي كالسيف المسلول من غمده؟
إن الله قد بين كل ذلك في آية فاصلة، هي قوله – سبحانه -: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } [الأحقاف: 5]
بدا الإنصات الكامل على عماد؛ فها هو يسمع كلاماً شافياً من القرآن العظيم، أنصت طويلا وسكن سكوناً تاماً وهو يتأمل هذه الآيات الكريمات وكيف لم تستوقفه أثناء تلاوته القرآن التي هو حريص عليها كل الحرص.
عاد محب بمقعده إلى الوراء قليلاً وقال ملاطفاً "عماداً" ومحترماً سكونه : دعني أطلب لك شاياً تجدد به نشاطك.
ذهب "محب"، وعينا "عماد" ترمقه وهو يقول في نفسه أحق ما يقول، أم هو الباطل عينه؟ إنه يذكر آيات محكمات .. ولكن .
اصطرعت في ذهنه أفكار شتى، وأحسّ أن الأرض بدأت تدور به، أفاق ومحب واقف بجانبه وعلى وجهه ابتسامة عريضة وفي يديه كوبان من الشاي.
رشف عماد من كوبه رشفة وبدا كأنه يريد أن يُلقي بشيء إلى محب فقال له:
"عمتي تزوجت منذ زمن بعيد ولم تُنجب أطفالاً، وقد زارت كل مصحة سمعت بها من غير فائدة تذكر، وحينما ذهبت على قبر الجيلاني رُزِقت بولد جميل؛ ألا يدل هذا على قوة تصرف الأموات؟
أجاب محب بكل هدوء: ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل الإنسان بعد موته قائلا: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له» ؟ فالجيلاني – رحمه الله – انقطع عمله بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ورزق ربك لعمتك الولد هو فضل ينبغي عليك أن ترده إليه – سبحانه – لا إلى قبر الجيلاني، فكل هذه الأعمال يستمر ثوابها حتى بعد الموت، وإلا فلم يبق له أي عمل بعد وفاته.
ولو تأملت قليلاً:
هل يقدر الأموات على ما لم يقدر عليه الأحياء؟ والله –تعالى – يقول: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّـهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } [فاطر: 22].
وما أسوأ أن يقُص الإنسان على الناس ألأعمال التي لا أصل لها من حيث تحقّقها سوى أن رآها فاعلوها حسنة في أعينهم فأكبروها لتعظيم من زيّنها لهم من البشر.
إنّ من ذُهب به إلى القبر فشُفى، فلعله شُفي حقاً، أما أن يكون الميت وسيلة يُستشفى به فهذا ما لا يمكن قبوله أبداً. وها نحن نرى أتباع الطريقة القادرية يغرزون السكاكين في أبدانهم ويحسبه بعض الناس كرامات خُصّ بها القوم، وكذا الهنود، فهم معروفون بإنفاذ السيوف في أجسادهم، ويغرزون في خدودهم قصبات سمكها كخشبة المطارق حتى تنفذ من الشق الآخر، فلو كان صنيع القادرية كرامات لوجب أن يُنسب هؤلاء الهنود إلى فعل المعجزات.
والحقيقة أنها لا علاقة لأفعال أحد من الفريقين بالدين، بل يجب تنزيه الدين عن مثل هذه الأفعال.
عماد: ولكن الشيخ عبد القادر الجيلاني في بعض شعره يقول:
مريدي إذا ما كان شرقاً ومغرباً *** أُغيثه إذا ما صار في أي بلدة
وقد شهدت بعض الحالات التي استغاث بالمريد فيها بشيخه فتمثل له وأنقذه مما هو فيه من كرب وضيق.
محب: إن كلامك هذا تنقضه الآيات القرآنية؛ حيث قال – تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } [ النمل: 62 ] فإذا ما ظهرت للمرء حاجة فسأل قضاءها من غير الله – سبحانه وتعالى؟ فكيف له أن يشعر بوجوب التجائه إلى الله سبحانه وتعالى؟
ومن ناحية ثانية فإن أكثر ما يُذكر عن هؤلاء الشيوخ غير صحيح والشعر المذكور آنفاً نعدّه من هذا القسم، فإذا كان قد اختُلِق الكذب بالآلاف من الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكيف لا يكذب على عبد القادر الجيلاني أو الجنيد أو الإمام الرباني؟ ولو فرضنا أن عبد القادر الجيلاني جاءنا وذكر لنا هذا الشعر لم نسلم له به معتذرين عنه بقلة علمنا إلى جانب علمه، بل نرده عليه غير مترددين؛ لأننا سنُحاسب يوم القيامة عن القرآن وليس عن عبد القادر الجيلاني.
عماد: ألا يستعين الناس بعضهم ببعض؟ فكيف لا يُستعان بغير الله إذن؟
محب: توجد العديد من الآيات والأحاديث التي تحث على التعاون والتناصر، لكن الكل يعلم أن طلب المعونة من الأموات تختلف عما نحن فيه؛ فبعض الناس يستعينون بهم في المواضع التي يجدون أنفسهم عاجزين عنها، فيدعونهم لدفع ضر أو جلب مصلحة متخذين وسائل خارقة للعادة.
وأضرب مثلاً: واجه بعض الناس سيلاً جارفا وهم ركوب في سياراتهم، فدعا أحدهم الرفاعي قائلا: يا سيدنا يا رفاعي يستعين به، ولو أن هذا الداعي سأل الله العليم البصير الخبير الذي لا يخفى عليه شيء لكان قد أحسن الصنع ولكنه يسأل السيد الرفاعي الذي يرقد في قبره؛ فهذا يعني أنه يؤمن بأن الرفاعي قادر على سماع دعائه والمجيء إلى ذلك المكان وإعانته فوراً، فهذا الداعي يتخيل في الرفاعي بعض الصفات التي هي فوق صفات البشر، منها: الحياة والعلم والسمع والبصر والإرادة والرحمة والقدرة، والحياة خلاف الموت، فلو لم يكن يعد الرفاعي حيا لما دعاه أو سأله المعونة، ولو كان هذا الفعل صواباً لفعله صحابة محمد صلى الله عليه وسلم مع وقوعهم في المضائق والكربات، ومع هذا لم يُذكر عن أحد منهم أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم.
تقطب جبين عماد حين سماعه لهذه الكلمات وقال معارضاً: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم يُغيث أمته ويلتقى بالصالحين منهم. محب: أخي! من الذي جعل هذا معلوماً؟
رسولنا صلى الله عليه وسلم بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وهو يقول فيما ذكره الله على لسانه: { قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [ الأعراف: 188] وجسده الشريف في قبره لا يخرج منه إلى يوم القيامة.
عماد: ما الدليل على هذا ؟ بل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من قبره ليُغيث أمته.
محب : الدليل قول الله – تعالى-: {ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15-16] وثم للتعقيب أي أننا نموت وبعدها نُبعث من غير فصل، والخطاب عام فيشمل المرسلين وغيرهم.
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما- أنه كان يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ما لي أراك منكسراً؟ فقلت: يا رسول الله! استُشهِدَ أبي وترك عيالاً وديناً، قال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قلت : بلى يا رسول الله ! قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك كفاحاً فقال : يا عبدي تمن علي أُعطِك، فقال: يارب ! تحييني فأُقتل فيك ثانية فقال الرب: إنه سبق مني: أنهم إليها لا يُرجعون»
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا مات أحدكم عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيُقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا : يا رسول الله! وكيف تُعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت؟ يقولون: بليت، قال: « إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» فهذا الحديث يدل على أن أجساد الأنبياء- عليهم السلام – لا تُفارق قبورهم.
والقول بأنه يخرج من قبره ليُغيث الأمة فيه مخالفة صريحة لكلام الله جل وعلا، ألم يقل الله – تعالى - : {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر:11].
فخروج النبي صلى الله عليه وسلم من قبره مخالفة لهذه الآية الكريمة.
عماد: وكيف هذا؟
محب: من المعلوم أن الله خلقنا من العدم، وهذه هي الموتة الأولى، ثم بعد ذلك نموت في الدنيا واحدة، وبعد الموت حياة أخرى؛ فالقول برجوع النبي صلى الله عليه و سلم أو الرجل الصالح من قبره فيه مخالفة ظاهرة لهذه الآية، فتكون ثلاث موتات وليست موتتين.
عماد: كلامك جيد! ولكن لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغيث بروحه وليس بجسده؛ وكذلك الأولياء يُغيثون بأرواحهم.
محب: أخي عماد! أنا لا أدري حقيقة من أين تأتي بهذه الأفكار! المسألة سهلة يسيرة: الله خلقنا وعلينا إفراده بالعبادة؛ فما الحاجة للاستغاثة بغيره وهو موجود سبحانه وتعالى، ومع هذا تأمل هذا الحديث الشريف:
عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [ أل عمران: 169] فقال صلى الله عليه وسلم: « أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع إليهم ربهم اطلاعه، فقال: هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففُعِل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يارب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا» .
ويُستفاد من هذا الحديث:
1-أنهم سألوا ربهم أن تُرد أرواحهم في أجسادهم، وهذا صريح في أنها قد فارقتها بالموت.
2-أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليقاتلوا في سبيل الله لما رأوا من عظيم ثواب الشهادة، فمُنِعَوا من ذلك، فقد انقطع التكليف وانقطع العمل وما بقى إلا الجزاء؛ فإذا لم يملكوا هم لأنفسهم نفعاً ولا حياة ولا تصرفاً، مع كرامتهم عند ربهم ووجاهتهم عنده؛ فكيف يملكون لغيرهم من الخلق جلب منفعة أو دفع مضرة؟!
عماد: لكن الشهداء لا يموتون.
محب: الشهداء أحياء عند ربهم . قال الله تعالى : {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ } [ البقرة: 154] فهذه الحياة برزخية ليست مما نشعر بها، ولو كنا نستطيع الشعور بها لما تأسف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة الذي مات شهيداً، ولو كان حمزة يجيب المنادي لجاءه أحياناً ولسأله قضاء بعض الحاجات.
وقال – تعالى – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر:30].
فما معنى الموت ها هنا؟ وما الذي يدل عليه إذا كان لا يزال يخرج من قبره ويُغيث الناس؟
والله – تعالى – يقول: {وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 19-21].
وما أكثر الذين يستعملون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأغراضهم السيئة! فهؤلاء يفترون على الله الكذب لتدوم لهم السيطرة على الناس، وهم يضلونهم بزعمهم أن رسول الله حيُّ وأنهم لهم معه لقاءات رغم الكثير من الآيات التي يخفونها، حتى إن منهم من يدّعي في رسول الله أنه نقيب المفتشين، يراقب من حول الشيخ.
عماد: لو شاء الله أما يمنح المحضار أو الدسوقي أو الجيلاني أن يجيب المستغيث به؟
محب: الله على كل شيء قدير، ولكن لا يصلح أن يستدل بقدرة الله على جواز مثل هذا؛ فمن ذا الذي يستطيع أن يدّعي في أحد هؤلاء قدرة خاصة وكل هذه الآيات بين أيدينا؟ ونحن كلنا ورسل الله معنا عباد الله تعالى، والله –تعالى- ربنا ومليكنا، ولا يملك العبد أمام سيده شيئاً وكذلك كل الناس بين يدي الله وإن كانوا رسلاً.
محب: أخي عماد!
عماد: نعم!
محب: بقى أمور لابد لك من التبنه لها في مسألة دعاء غير الله وهي أمور لا ينفك عنها من دعا غير الله.
عماد: مثل ماذا؟
محب: أولاً: أن من يدعو غير الله من الأموات أو الأحياء لا ينفك من اعتقاد علمهم بالغيب، ولا شك أن الله جل وعلا {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } .
ثانياً: أن من يدعو غير الله من الأموات أو الأحياء الغائبين لا ينفك من اعتقاد أنهم متصرفون في الكون.
عماد: هذان والله أمران عظيمان، إني أبرأ إلى الله من دعاء غيره!
بدا البشر والسرور على وجه محب، وقال: بارك الله فيك أخي عماد! فهذا هو دأب باغي الحق العودة والأوبة إلى صراط الله. وفي هذه الأثناء اهتزت السفينة هزة خفيفة ابتسم محب، وابتسم عماد.
واستأنف محب حديثة بقوله: وزيادة على ما ذكرته فسأبين لك هدي محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله في الدعاء إن مسهم الضر:
1-أيوب عليه السلام : قال الله – تعالى- : {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿٨٣﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83-84].
2- ذو النون يونس بن متى عليه السلام : قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿٨٧﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87-88].
3-يوسف بن يعقوب عليهما السلام: قال الله –تعالى- {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ﴿٣٣﴾ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف : 33-34].
4-زكريا بن عمران عليه السلام: قال الله – تعالى - : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴿٣٨﴾ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38-39]. وقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴿٨٩﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89-90].
5- موسى بن عمران عليه السلام : قال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿٨٨﴾ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٨٩﴾} [يونس: 88-89].
هذا دعاء الأنبياء الذين اصطفاهم واختارهم، فهم خير البشرية ولبابها، ترى الواحد منهم إن مسّة البأساء أو الضراء رفع يديه لرب الأرض والسماء يدعوه ويسأله أن يكشف ما به من ضر، فلم لا نقتدي بهم؟ أخبرني يا عماد؟
عماد : عن أي شيء أخبرك ؟
محب: ماذا يقول من يدعو غير الله ؟ أليس يقول:
يا حسين أغثني!
يا دسوقي اشفني!
يا بدوي انصرني!
يا شاذلي ارزقني مالاً أو ولداً!
والله – تعالى- يقول: { وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]. {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [الشعراء:213]. {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]. عماد: سبحان الله ولكن أخبرني ما هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الدعاء؟
محب: دعنا نناقش هذا في مجلس قادم بارك الله فيك.
عاد محب إلى حجرته في السفينة وذهنه مليء بأفكار مصطرعة ما بين تعجب وإشفاق وفرح لصديقه.
قام إلى منضدته واستل قلمه، وكتب الرسالة التالية إلى عماد:
رسالة إلى عماد .. إذا سألت فاسأل الله .
رسالة صادقة أبعثها إليك.
«إذا سألت فاسأل الله ».
أخي الحبيب:
إنّ نصح نبينا محمد – عليه الصلاة والسلام- لأمته فوق كل شبهة، وإشفاقه عليها ليس مجالاً لأدنى شك، كيف لا وهو الذي بذل الغالي والنفيس في سبيل دعوته؛ فإذا أمرني وإياك بأمر وجب تقديم أمره على كل مقدم، وقد قال – هو بأبي وأمي-: « إذا سألت فاسأل الله» .
إن قلبك ليدمى حرقة ولوعة وأسى حين تسمع السؤال؛ ولكن لغير الله، والدعاء؛ ولكن لأصحاب القبور، والالتجاء؛ ولكن لشخص من البشر.
أخي الحبيب: ألا ترى تلك الجموع وقد خطت رحالها بباب البدوي أو المحضار أو الجيلاني أو الحسين سيد شباب أهل الجنة، ألا تراهم يتفيؤون نسائم الرحمات، ويتلقون برد الرحمة والرضا، أتراهم على جادة أم عن الجادة نكصوا، وقد قال جد الحسين صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله» .
أتراهم سألوا الله أم سألوا غيره؟
أيها الحبيب: استمع معي إلى قول الله –تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]، هل تأملت لماذا هو قريب؟ ولماذا هو يجيب دعوة الداعي؟
أَلِأَجل أن يُدعى غيره؟ أم لأجل أن يُلتجأ إليه ويُوحد في الدعاء؟
حكّم عقلك. استمع إلى قوله – تعالى- {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14].
أتظن أن الماء سيبلغ فاه؟
لا، والله!
أتحب أن يكون وصفك كما هو في آخر الآية؟ إني والله عليك مشفق.
استمع أيها الحبيب إلى هذه الآية: {وَلِلَّـهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } [الرعد:15].
أترى أنه بعد هذه الآية يجوز السجود لغير الله؟
استمع للآية التي تليها: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّـهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّـهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّـهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد:16].
لا والله لا يستوي الأعمى والبصير.
أخي الكريم! أسمعت هذه الآيات؟
ألا تراها واضحة في صرامة صارمة في وضوح؟ هل تحتاج بعد هذه الآيات إلى برهان ودليل؟ ومع هذا ها أنت تسمع من طرف قصي:
ناد علياً مظهر العجائب *** تجده عوناً لك في النوائب
وآخر تراه وقد التزم القضبان الحديدية لقبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو قبر السيدة زينب أو قبر البدوي وهو يبكي بكاء مراً وينشج نشيجاً متقطعاً ويرجو ويخشى.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد *** إن كان في القلب إسلام وإيمان
فبالله على نفسك فلتبك، وعلى بؤسك فلتحزن، أيُدعي غير الله في أرض الله، استمع إلى كلام الإمام الصادق- عليه رحمة الله – وهو إمام من أئمة آل البيت:
" فوالله ما نحن إلا عبيد للذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضر ولا نفع، إن رحمنا فبرحمته، وان عذبنا فبذنوبنا، والله ما لنا عليه من حجة، ولا معنا من الله براءة، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسئولون ... " إلى آخر كلامه رحمه الله.
ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا *** وأنك تلقى باطل القول لجلجا
فأين ذهب عقلك وأنت تدعو غير الله؟
أين ذهبت بصيرتك؟
أين ذهب بصرك؟
أرأيت الآيات المحكمات؟ أرأيت الكلمات النيرات؟ ومع هذا إنك لتأسى وأنت تسمع بعض المضلين يستدل بما هو متشابه محرضاً به على الشرك بالله من مثل قوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [ المائدة: 35].
ويقولون: إن الوسيلة هي ما يُتَوسلُ به إلى الله، وهذا صحيح، ولكن هل مما يُتوسل به ذوات بني آدم وقبورهم؟ إن الوسيلة هي السبب الذي يقربكم إليه – سبحانه – من فعل الخيرات والأعمال الصالحة.
إذن فليس مما يُتوسل به ذوات الصالحين وقبوهم، وإنما المراد بالتوسل في الآية التوسل بالعمل الصالح من إيمان وتوحيد ودعاء، ونحو ذلك.
استمع إلى هذه الآيات من سورة النمل، ثم تأمل تلك التعقيبات العجيبة آخر آية: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [النمل: 60].
{ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل: 60].
{أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [ النمل:61].
{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } [النمل: 62].
{ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ تَعَالَى اللَّـهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63].
{ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل: 64].
{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [ الشعراء: 213].
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ ق: 26].
أرأيت صولة الحق؟ ألا تنظر إلى وضوح الحجة وقوتها؟
هذا هو دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو دين أوليائه، هذا هو نهجهم، هذه هي عقيدتهم، فأين نحن منهم؟ أين نحن من تطبيق منهجهم؟
لقد آن للسماء أن تفتح أبواباً وللجبال أن تسير سراباً، حين تسمع داعياً يقول: يا جيلاني، يا رفاعي ، يا محضار!
واهاً لكم يا أولياء الله ! فكم كُذِبَ علي الدين باسمكم، وكم اُفتري على الشريعة برفع شعار حبكم.
أيها الكريم: تأمل معي قول الله – تعالى - : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ الأعراف: 194] ماذا تفهم من هذه الآية؟ ما الذي تعقله منها؟ أتفهم منها دعاء الدسوقي عند المصائب؟
أم دعاء الحسين عند الكربات؟ أم اللجوء إلى المحضار عند المضائق؟
أين عقلك؟
أين بصرك؟
أين بصيرتك؟
إن هذا كلام ربنا خالقنا الذي له ملك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير، أتدري من هو الله؟! استمع إليه وهو يقول: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّـهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [ يونس: 31].
ويقول – تعالى-: { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٨٤﴾ سَيَقُولُونَ لِلَّـهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٨٥﴾ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿٨٦﴾ سَيَقُولُونَ لِلَّـهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٨٧﴾ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٨٨﴾ سَيَقُولُونَ لِلَّـهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ } [المؤمنون: 84-89].
فتأمل تعقيبه: { فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ }.
فكأن القوم باتوا مسحورين .
قد يمر بخاطرك – أثناء قراءتك للقرآن وصلاتك وصدقتك وبكائك على أولياء الله ومحبتك لهم، وزيارتك لهم – سؤال: أيكون كل هذا غير نافع لي عند الله؟
وأقول: بلى، والله! هو نافع لك وذخر لك عند الله، ولكن تأمل معي هذه الآية: يقول الله – تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ } [يوسف: 106].
أتدري ما معنى هذه الآية؟ معناها: أن كثيراً ممن يؤمن بالله وأنه خالقه ورازقه هو مع هذه مشرك وإن صلى وصام؛ لأنه جعل لك شريكاً في عبادته ودعائه.
وقد يمر بخاطرك قضية أخرى وهي قول بعضهم: إننا لا نعبد هذه القبور ولا نستغيث بالحسين ولا نتوجه إلى البدوي ولا نستعين بالرفاعي إلا لأنهم عباد صالحون، وقد عبدوا الله حق العبادة، ووحدوه حق التوحيد، فهم مخلصون في يقينهم وإيمانهم وهم قريبون من ربهم، فنتلمس قربهم من الله كي يقربونا منه، وهذا والله دخيلة شيطانية.
تأمل معي هذه الآية: {أَلَا لِلَّـهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [ الزمر: 3].
كرر النظر في الآية: أترى أن ثمة تطابقاً بين حالين عافاني الله وإياك؟ أتدري ماذا يريد هؤلاء؟
إنهم يريدون القرب من الله ولكنهم ضلوا الطريق، وكم من مريد للخير لم يصبه، وتأمل نهاية الآية جيداً.
أخي الحبيب: أقرأت كتاب الله؟ هل حفظت شيئاً منه؟
هل تدبرته؟ هل تفكرت في آياته؟
هل أنت مُعرض عنه؟ إلى متى تستمر هذه الغفلة؟
هل أعددت للآخرة زاداً؟ كيف تُحاجّ عن نفسك عند الله؟ كيف تدفع عنها العذاب وقد سمعت هذه الآيات الباهرات التي تدلك على توحيده؟
هل تأملت الأمم وهي جاثية كل أمة تُدعى إلى كتابها؟ هل تأملت الحشر والنشور؟
هل تأملت الحساب والجزاء؟
أرأيت أنك وحيد لا رفيق لك ولا صديق، لا أنيس معك ولا جليس إلا عملك الصالح: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿٣٤﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿٣٥﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿٣٦﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس: 34-37].
وأخيراً أيها الكريم: إنني أبعثها إليك رسالة واضحة صريحة أرجو منك أن تتلقاها بعقل وبصيرة واعية .
إن الأئمة من آل البيت، وإن أولياء الله الصالحين أئمة لنا وهم متخلقون بكل خلق ودين وورع، ولكنهم عباد من عباد الله مُخاطبون بمثل قوله –تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات: 56] ليسو أرباباً ولا يجوز دعاؤهم من دون الله.
أسأل الله أن يهديني وإياك سبل السلام، وصلى الله وسلم على محمد وآله.

محمد بن عبد الله المقدي

No comments: